منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، لم يكن تأثير طهران محصورًا في حدودها الجغرافية، بل امتد إلى عمق العالم الإسلامي، سياسيًا وفكريًا ومذهبيًا. آنذاك، مثلت الثورة بقيادة الإمام الخميني لحظة تاريخية ألهمت قطاعات واسعة من الشعوب الإسلامية، لا سيما الشيعة الذين وجدوا في الجمهورية الوليدة صوتًا جديدًا يعبر عن طموحاتهم المهدورة وهويتهم المُقصاة في كثير من الدول.
في العقود التالية، أصبح الحديث عن “المدّ الشيعي” مرتبطًا بشكل وثيق بالحراك السياسي الإيراني، حيث شهدت عدة دول عربية، من لبنان إلى العراق مرورًا بالبحرين واليمن، تصاعدًا في الحضور الشيعي السياسي والاجتماعي، تغذيه أحيانًا الروابط المذهبية وأحيانًا أخرى الشعور بالتهميش.
واليوم، ومع تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، وتمسّك طهران بخطابها المقاوم رغم الضغوط الدولية والعقوبات الغربية، يبرز تساؤل مشروع: هل يمكن لصمود إيران الحالي أن يعيد إنتاج المدّ الشيعي الذي أعقب ثورة 1979؟
بين الثورة والصراع: اختلاف السياقات
ما لا يمكن إنكاره أن الثورة الإيرانية التاريخية كانت لحظة زخم غير مسبوقة، ساعدها على الانتشار خطابها الثوري المناهض للغرب، وغياب الإعلام المفتوح، واحتضانها قضايا عربية كفلسطين. أما في المشهد الراهن، فإن السياق يختلف تمامًا. فالصراعات الطائفية التي انفجرت منذ غزو العراق عام 2003، ثم تفجرت أكثر بعد أحداث “الربيع العربي”، أفرزت استقطابًا مذهبيًا حادًا.
لم تعد إيران تُرى في كثير من العواصم العربية كقوة تحررية، بل كدولة ذات أجندة مذهبية تتدخل في شؤون الدول الأخرى، كما في سوريا واليمن والعراق ولبنان. هذا التحوّل في الصورة النمطية أضعف من جاذبيتها كقوة مقاومة، وحدّ من قدرتها على التأثير الثقافي والمذهبي المباشر.
النفوذ السياسي لا يعني التشيّع المذهبي
صحيح أن النفوذ الإيراني السياسي والعسكري تعزز في بعض المناطق نتيجة تحالفات مع قوى محلية – كحزب الله في لبنان أو الحوثيين في اليمن – إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن هناك تحولًا مذهبيًا واسع النطاق من السنة إلى الشيعة في العالم الإسلامي.
فالتحول المذهبي ليس نتيجة مباشرة لصراع سياسي، بل عملية معقدة ترتبط بالهوية والتنشئة والعقيدة. وعليه، فإن إعجاب بعض الشعوب أو الجماعات بـ”الصمود الإيراني” لا يترجم بالضرورة إلى انتماء مذهبي جديد، بل قد يظل ضمن حدود التعاطف السياسي أو التأييد الظرفي.
في عصر الإعلام المفتوح ومنصات التواصل الاجتماعي، أصبح المسلمون أكثر وعيًا بالتفرقة بين الخطاب السياسي والمذهبي، وأكثر مقاومة لمحاولات التوظيف الطائفي لأي قضية. وما قد ينجح في كسب تعاطف، قد يفشل في إحداث تغيير عقائدي.
حتى داخل الطائفة الشيعية نفسها، لا يعني الولاء المذهبي تأييدًا مطلقًا للسياسات الإيرانية. فثمة أصوات شيعية عربية ترفض الخلط بين الانتماء الديني والمشروع السياسي الإيراني، وتدعو إلى استقلالية القرار المحلي.
رغم أن صمود إيران في وجه الضغوط الخارجية يعزز مكانتها لدى حلفائها، إلا أن إعادة إنتاج “المدّ الشيعي” على غرار ما حدث بعد 1979 يبدو أمرًا غير مرجّح في ظل السياقات الراهنة. فالعالم الإسلامي تغير، والمجتمعات باتت أكثر وعيًا، والصراع الطائفي لم يعد أرضية خصبة كما كان قبل عقود. ما تحتاجه المنطقة ليس مزيدًا من الاستقطاب، بل مشروعًا جامعًا يعلو فوق الطوائف ويعيد الاعتبار لمفهوم الوحدة الإسلامية بعيدًا عن الحسابات الجيوسياسية الضيقة.