طنجة… من مدينة المتوسط إلى قاطرة صناعية للمغرب: الوجه الآخر للتحول الاقتصادي
تحقيق الجهوية الجديدة
لم تعد مدينة طنجة فقط بوابة المغرب نحو أوروبا، بل تحولت خلال العقدين الأخيرين إلى واحدة من أبرز المنصات الصناعية في شمال إفريقيا. من المنطقة الحرة إلى منصة “طنجة تيك”، ومن مصانع النسيج إلى إنتاج السيارات والطيران، تعرف المدينة اليوم تحولات عميقة تُعيد رسم ملامحها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية. تحقيقنا هذا يُسلّط الضوء على الدينامية الصناعية التي تشهدها طنجة، بين الطموحات الاستثمارية والتحديات الحضرية.
من “مدينة السياحة” إلى قطب صناعي
كانت طنجة، قبل بداية الألفية الثالثة، تُعرف بكونها مدينة ذات طابع تجاري وسياحي بامتياز، تمتزج فيها الرومانسية المتوسطية بالنشاط الاقتصادي الموسمي. لكن بعد انطلاق مشروع طنجة المتوسط سنة 2007، ثم المنطقة الصناعية الحرة، دخلت المدينة مرحلة جديدة جعلتها تُصنف لاحقًا كأحد أهم مراكز التصنيع والتصدير في المملكة، بل وفي شمال إفريقيا.
فخلال السنوات العشر الأخيرة، شجّعت الدولة على إحداث مناطق صناعية متخصصة، على رأسها:
-
طنجة أوتوموتيف سيتي (TAC): فضاء يحتضن عشرات الوحدات الصناعية المتخصصة في السيارات ومكوناتها، وعلى رأسها مصنع “رونو طنجة” الذي يُنتج مئات الآلاف من السيارات سنويًا، ويُشغّل آلاف العمال المغاربة.
-
طنجة تيك: مشروع صيني-مغربي عملاق، وُلد في عام 2019 ويمتد على مساحة تقارب 500 هكتار، بهدف استقطاب شركات تكنولوجية وصناعية عالمية، خاصة من الصين، في مجالات كالإلكترونيات والطاقة المتجددة.
-
المنطقة الحرة بطنجة: تضم عددًا كبيرًا من الشركات متعددة الجنسيات، وتُعتبر رافعة للصادرات المغربية نحو أوروبا وأمريكا.
فرص عمل.. لكن بشروط
لا يمكن الحديث عن هذه الدينامية دون التطرق إلى الآلاف من فرص الشغل التي خلقتها المناطق الصناعية. فوفق إحصائيات غير رسمية، تُشغّل منطقة طنجة الصناعية ما يناهز 90 ألف عامل في مختلف القطاعات، من النسيج والألبسة إلى صناعة السيارات والطيران.
غير أن هذه الفرص، ورغم أهميتها، لا تخلو من إشكالات: أجور منخفضة، هشاشة الشغل، ظروف العمل الصعبة، وغياب التغطية الاجتماعية الكاملة في بعض المقاولات الصغيرة. ويُطرح السؤال بحدة: هل تُوازي جودة التشغيل حجم الاستثمارات؟
اختلالات عمرانية وخطر على البيئة
مع هذا التوسع، ظهرت اختلالات عمرانية واضحة. مصانع أقيمت وسط أحياء سكنية، كما هو الحال في حي “بني مكادة” الشعبي، حيث اندلع قبل أشهر حريق خطير بمصنع للبلاستيك، ما أعاد للواجهة موضوع السلامة الصناعية وغياب شروط الأمن في بعض الورشات.
كما تعاني المدينة من ضغط على البنية التحتية: الطرق غير الكافية، شبكات الصرف الصحي المجهدة، والنقل الحضري غير المنظّم، خصوصًا في ساعات خروج آلاف العمال من المصانع.
بيئيًا، لا يزال التلوث الصناعي يشكّل خطرًا صامتًا. فبعض المصانع تُفرغ مخلفاتها السائلة والصلبة دون مراقبة صارمة، رغم الجهود المتزايدة لاعتماد الطاقة النظيفة ومعالجة النفايات الصناعية.
المستثمر الأجنبي يراهن على طنجة
طنجة اليوم أضحت قبلة لمستثمرين من رومانيا، فرنسا، الصين، ألمانيا…، وقد أعلنت شركات مثل Shandong Daye الصينية استثمارًا يزيد عن 100 مليون دولار في وحدات لإنتاج الأسلاك الفولاذية بطنجة تيك. كما افتتحت شركة رومانية كبرى مصنعًا للبلاستيك في أوتوموتيف سيتي سنة 2024، ما يعكس ثقة دولية في المناخ الصناعي بالمنطقة.
هل تواكب المدينة تحوّلها الصناعي؟
تبدو طنجة في سباق مع الزمن. فهي تتقدم بثبات على مستوى المؤشرات الاقتصادية، لكنها تُواجه معارك يومية في مجالات التنظيم الحضري، العدالة المجالية، حماية البيئة، وتوفير شروط عمل لائق. نجاحها في هذا التحول سيعتمد ليس فقط على حجم الاستثمارات، ولكن على قدرتها على دمج الإنسان في قلب النموذج التنموي.
في الختام
لم تعد طنجة مدينة “الاستجمام والمتوسط”، بل أصبحت اليوم مدينة الإنتاج والمستقبل الصناعي. ومع كل مصنع يُفتتح، وميناء يُوسّع، وسكة حديد تُمدّد، تتقدّم المدينة خطوة في درب التحديث. غير أن هذا التقدّم لا يكتمل إلا إذا كانت العدالة الاجتماعية والبيئية جزءًا من المعادلة، حتى لا تدفع الطبقات الهشة ثمن التصنيع السريع في صمت.