مدارج البوح والعزلة لمحمد المسعودي
الأمكنة ذاكرة القصيدة

عبد النور مزين
طبيب أديب ومترجم، باحث في الديناميات الثقافية والهامش.

كلما ذكر اسم الكاتب المغربي محمد المسعودي، يحضر إزميل النقد الأدبي كأداة رئيسية في نحت أثر الكاتب وفي تشكيل مسيرته عبر جغرافية الأدب. لكن القليل من المهتمين بالشأن الأدبي من غاص في عوالم المبدع الشعرية والسردية، بالرغم من أن الكاتب راكم ما يكفي من الكتابة الشعرية (ديوانان) والسردية (مجموعة قصصية وعدة قصص قصيرة منشورة في مواقع إلكترونية مختلفة) ، تجعلنا نخوض تجربة مقاربة شكل القصيدة والحكي لديه بعيدا عن عوالم النقد المعروف بها.

للأمكنة في سردية المسعودي وقصيدته معنى مختلف. يأخذ انعطافات حادة قد تغوص عميقا في تربة الكتابة حتى مائها الحي البعيد. من عمق حي القصبة العريق بطنجة، على مشارف بحر الظلمات إلى الغرب من أعمدة هرقل، جاء إلى عوالم الغواية في طنجة وفي الكتابة. ومن يعرف ارتباطه بطنجة قد يعرف معنى العزلة والشوق التي يمكن أن يحسهما وهو يؤسس تلك التجربة المهنية المهمة في مساره الإبداعي، بعيدا عن طنجة في أقصى الجنوب الشرقي بتنغير، وفي احتكاك مباشر وغني بتجربة وغنى الشعر الأمازيغي.

كلنا أبناء البادية تقريبا. والحنين إلى أمكنة البادية حنين مضاعف. فيه الحنين إلى الأمكنة والحنين إلى براءة الطفولة أيضا والامتداد في الجذور. بالنسبة لشاعر فقد باديته، يكون الفقد مضاعفا أيضا ممزوجا بفقد أبدي تقريبا كحنين أغاني الفادو المبثوث في وجع الزنوجة وجرح الرق الغائر. هكذا كان الفقد بالنسبة لبادية سيدي ادريس وهي تغرق إلى الأبد تماما، كجزيره أطلانطيس، تحت أمواج إسمنت المدنية الزاحف. كيف أضحت بادية سيدي ادريس قلبا لمدينة ناشئة، وكيف انتصب الفقد في ذاكرة المسعودي هوة سحيقة من الحنين والذكريات. ما أقسى حياة شاعر فقَد إلى الأبد باديته.

 

ثم تأتي مرتيل .
زمن مرتيل ، زمن الجامعة و شط مرتيل الجميل.

هناك نبتت تلك القصيدة. قصيدة “الحوار والبوح” التي تصدرت قصائد ديوان “مدارج البوح والعزلة”. قصية في الزمن والأمكنة. 1987 في تشظ بين طنجة ومرتيل. بين موجة وصداها.

صبوة نفسي ترحل من شرنقة الضياع

تعبر عنابر المدى

تبحث عن وهج يلم خيوط النور

ينسج منها ملاذا لشوقي وسلوى

فتنداح حصون شكوى.

هكذا يبدأ العزف، بوصف لواعج النفس القصية وصحوتها الداخلية، كصبية ترحل من “شرنقة الضياع” و”تعبر عنابر المدى”، رغبة في البحث عن هدف، عن وجهة، عن شوق وراحة داخلية.

شهقة روحي تنسل من قوقعة الرماد

تهاجر في مواسم الهفو/ التوق

تلم شتات هجسي السارح

تخيط ثوب فرح سحري

عشبا أخضرا

يعانق همسة الصحو

علني أصير جذر البوح

سلال عشق

ومرعى البهاء.”

“خيوط النور” أمل وفسحة للحياة بديلا لظلمة الشاعر الداخلية والتي ما فتئت تنضح مباشرة في الجزء التالي من القصيدة بشجن الروح وتأملاتها، حيث ” تنسل من قوقعة الرماد” و” تهاجر في مواسم الهفو والتوق“، كرغبة دفينة في الابتعاد عن القيود والمحن والسعي لتجميع “هجسه” المبعثر وخيوطه الفكرية في “ثوب فرح سحري” ، قبل أن تمتد صورا شعرية ” لعشب أخضر يعانق همسة الصحو“، أملا متجددو فصلا جديدا من السعادة والسلام،  ك”جذر البوح” وأصلٍ للإبداع.

فينتشي الفقراء من دوحي

يذوقوا لون فيحي

ولفحة سحبي

واعتناق النورس عند هذبي

لحظة الاشراق.

 

فيا نفسي كوني بنفسجا

يزهر عند قبور الأنباء

كوني فجر السناء.”

والأبيات الأخيرة، لحظة إشراق وتجلٍّ للجمال حيث يتم استدعاء “لون فيحي” و”لفحة سحبي واعتناق النورس عند هذبي“، صور من الفرح والسعادة، قبل أن تنتهي الأغنية بنداء للنفس كي تكون بنفسجاً، ” يزهر عند قبور الأنباء، وفجر السناء“. تجددا للأمل والحياة.

طنجة/ مرتيل خريف 1987 “

هكذا تتماوج القصيدة بين الفرح المشتهى والحرية المنفلتة وغلالة الشجن الشفيف لتنثر طقس الروح في المدى الشعري. غير أن ذلك لن يكتمل إلا عبر تلك الذاكرة. ذاكرة الأمكنة الملونة المرشوشة بمسحة الخريف وعبق الأزمنة. طنجة ومرتيل مدرجان للبوح والذاكرة. لا يستقيم فهم القصيدة دون تلك الذاكرة. ذاكرة طنجة . ذاكرة مرتيل على شرفة المتوسط الغربية، وشرفة الأزمنة الهاربة، شرفة الجامعة.1987.

والدكتور محمد المسعودي كاتب مغربي ناقد قاص وشاعر قدم للمكتبة العربية والمغربية على وجه الخصوص العديد من الإصدارات النقدية في الرواية والشعر والقصة وأدب الرحلة نذكر منها “شتعال الذات سمات التصوير الصوفي في الإشارات الإلهية”،  و” فتنة التأويل في قراءة متخيل الرواية العربية” ،  “الكتابة الشذرية في الأدب المغربي الحديث”،  و “في بلاغة القصة المغربية القصيرة” .      و”الرواية والإنسان ومتاهة الحضارة”.  شارك في عدة ندوات داخل المغرب وخارجه.

حصل على جائزة ابن بطوطة في صنف الدراسات الأدبية لسنة 2021 عن كتابه “الرحلة ما بعد الكولونيالية في الأدب العربي المعاصر”، وله مساهمات عديدة في كتب جماعية ومجلات محكمة.

كما أصدر في الشعر ديواني ” مدارج البوح والعزلة” و ” حلم طائر” ومجموعة قصصية ” صانشو بانشا يدخل المدينة “.

_تمت_

التعليقات مغلقة.