تمثيل الرغبة في رواية “آخر” لمحمد القصبي
(الرواية وتجديد المعرفة السردية)
د. محمد المسعودي
ناقد وأديب.
كثيرة هي الأعمال السردية التي تتميز بالانسيابية والبساطة في تناول موضوعاتها تخييليا في المتن الروائي الإنساني شرقا وغربا، رغم ما تكتنزه وسط هذه الانسيابية والبساطة الظاهرتين من عمق المعالجة واكتناه جوانب من الحياة، ومن حالات الإنسان الوجدانية والنفسية والفكرية. وفي هذه اللحظة تحضرني عناوين الروايات التالية: الشيخ والبحر لهيمنجواي، والأم لغراتسيا دليدا، وسدهارتا لهرمان هيسه، والزوج الأبدي لدستويفسكي، والبوسطجي ليحيى حقي، والكرنك لنجيب محفوظ، ومأساة ديميتريو لحنا مينه… وغيرها. وفي هذا السياق تندرج رواية “آخر” لمحمد القصبي؛ فهي رواية تبدو في ظاهرها بسيطة صياغة وبناء، منسابة أسلوبا وسردا، لكن من يتأمل ما يثوي بين سطورها من إشارات وتلميحات يتبين له أن الرواية غنية من حيث أبعادها الدلالية والرمزية، ومن حيث خلفيتها المرجعية وعلاقتها بالسرد الروائي العالمي؛ وهذا ما ستعمل هذه القراءة على تجليته قدر الإمكان.
في قراءته للرواية الغربية وقف المفكر والناقد والأنثربولوجي الفرنسي “رينيه جيرار” عند مفهوم “مثلث الرغبة” ليجلي مفهومه عن “الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية” في كتابه الشهير الذي يحمل العنوان المشار إليه. ونحن ننطلق من بعض رؤى هذا الناقد في محاولتنا الوقوف عند تمثيل الرغبة في رواية “آخر” لمحمد القصبي.
يتحدث “رينيه جيرار” عن نظريته المتعلقة بالرغبة المحاكية (Désir mimétique (، أي الرغبة باعتبارها محاكاة، فهو يرى ” أن رغباتنا ليست مستقلة ولا تنبع من ذواتنا، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر-هو النموذج أو الوسيط- في الغرض نفسه. ويعني ذلك أن العلاقة بين الشخص الراغب والغرض المرغوب ليست علاقة مباشرة، بل هي تمر عبر الوسيط، وبالتالي تأخذ الرغبة شكل مثلث هو مثلث الرغبة الذي يضم تلك الأطراف الثلاثة، أي الشخص الراغب والوسيط والغرض المرغوب. ويرى “رينيه جيرار” أن الأغراض التي يمكن أن تكون موضوع رغبة مشتركة نوعان: تلك التي تقبل المشاركة وتُولِّد بين البشر مشاعر التعاطف، وتلك التي يتمسك بها الفرد ولا تقبل المشاركة، فتولد التنافس وبالتالي الغيرة والحسد والكراهية والعنف”. (الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية، ترجمة رضوان ظاظا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص. 14)
هكذا يحدد “رينيه جيرار” للرغبة ثلاثة أضلاع: الذات –الموضوع -الوسيط (الذي يحفز الذات سلبا أو إيجابا) لتحقيق الرغبة أو عدم تحقيقها. وهذه البنية تشتغل في جل الروايات التخييلية، إن بشكل أو آخر، لتكشف عن “حقيقة روائية” ما يعمل النص الإبداعي على تجليتها عبر متخيلها.
ويحدد “رينيه جيرار” نوعين من الوساطة هما: “الوساطة الخارجية والوساطة الداخلية. تكون الوساطة خارجية عندما يكون وسيط الرغبة بعيدا اجتماعيا عن متناول الشخص الراغب، لا بل حتى بعيدا عن العالم الواقعي، كحال أماديس دو غول، نموذج الفروسية الأمثل في نظر دون كيخوطي دي لامانشا بطل رواية “ميجيل دي سيرفانتيس”. وتكون الوساطة داخلية عندما يكون الوسيط حقيقيا وموجودا عند مستوى الشخص الراغب نفسه. وهو يتحول في هذه الحالة إلى منافس وإلى عقبة تقف حائلا دون امتلاك الغرض المرغوب، فتزداد قيمة هذا الأخير مع احتدام المنافسة”. (المرجع نفسه، ص.15)
في رواية “آخر” لمحمد القصبي نجد شخصيتها المحورية تجعل من “آخر”/ أو وسيط حافزا على الفعل أو ردود الفعل، وهو وسيط عائق عن تحقيق الرغبة: امتلاك الزوجة والهناء في بيت الزوجية وتحقيق الانسجام والسلام الأسري. يقول السارد في مقطع دال من الرواية:
” ذاكرته فوهة بركانٍ تقذفه بحُممٍ من العذاب، ماذا حدث حتى يُقبل عليها بكل هذا الاشتهاء، وهو المشطور عنها منذ شهورٍ بأخاديد الشكوك، التي إن اقتربت من حافة اليقين، سرعان ما تتباعد دون أن تتلاشى؟!، لم يكن اشتهاءً، بل رغبة شيطانية في التأكيد على أنه إن كان ثمة مُقارنة في دواخلها العميقة بينه وآخر، فلا آخر، أيِّ آخر، يُباريه فى عُنفوان رجولته!” (رواية “آخر”، مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر، الإسكندرية، 2022، ص. 7)
بهذه الكيفية تبرر الشخصية المحورية رغبتها في امتلاك جسد الزوجة، عبر استحضار “آخر”، ذلك الوسيط/ العائق الذي نزع منها طمأنينتها وراحتها النفسية. وقد حسبت الزوجة أن هذا الإقبال بداية عودة المياه إلى مجاريها الصافية، غير أن هذا الفعل الذي أقدمت عليه شخصية البطل لم يكن سوى محاولة إثبات للذات المنشرخة، ومحاولة لتأكيد فحولة موهومة أخذت تتضعضع بفعل الشكوك والهواجس، لأن هذه الهواجس والشكوك ستزداد وتطرد إلى درجة تقلب حياة الرجل وتدخله في دوامة قلق واضطراب لن تنتهي، وهي تعبير عن كراهية وحسد وتجسيد لعنف. وكما يقول “رينيه جيرار”: “إن الحسد والغيرة والكراهية العاجزة هي من النتائج الحتمية للرغبة المنسوخة عن رغبة أخرى، فكلما اقترب الوسيط(..) تبدو ثمار مثلث الرغبة أكثر مرارة”. (الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية، ص.66)
وعبر هيمنة هاجس هذا الآخر على الشخصية، نجده في لحظة من لحظات الرواية يحصل نوع من التماهي بين الشخصيتين، بحيث ترغب الشخصية في أن تكون مكان هذا الوسيط/العائق الذي يَحول بين الذات ورغبتها. وقد كان الإقدام على ممارسة الجنس مع الزوجة في حالة هيجان وعنف وقسوة دلالة على رغبة في الانتصار على هذا الآخر، ومحاولة إثبات للذات كما بينا سابقا عبر ممارسة دافعها الكراهية لا الحب.
وهكذا نجد اشتغال “مثلث الرغبة” في الرواية يُقدم لنا صورة عن شخصية “حالمة” كانت تتوهم أنها تعيش في “عالم مثالي” ومجتمع سوي، ولكنها في أثناء الصدمة التي تعرضت لها صارت معنية بمطاردة أشباح الرذيلة وهي تتطلع إلى مجتمع الفضيلة، وعبر رحلتها في المعرفة والاستقصاء، بغية محو شكوكها، تقف عند حقائق معرفية متنوعة تضيء جوانب من حقيقة علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المرأة بالمرأة، والرجل بالرجل، كما تجلي رواسب خفية في طيات المجتمع تشكل قواسم مشتركة مسكوت عنها. وعبر رحلة الشخصية المحورية في الرواية وبحثها في وسائل التواصل الحديثة: غوغل ووسائط التواصل الاجتماعي، وفي الكتب، أو في اكتشافها لعوالم الشيوخ والمعالجين المشايخ تطلع على جديد، وتتكشف لها حقائق كانت بعيدة عنها لم تزدها سوى بعدا عن تحقيق الاطمئنان النفسي والإشباع الروحي اللذين يطردان هواجسها ويقضيان على شكوكها في الزوجة. وبذلك، فإن المعرفة المكتسبة عبر مختلف الوسائل التي لجأت إليها شخصية البطل لم تزدها سوى شكوكا واضطرابا وقلقا. وبذلك تصير المعرفة الحديثة بتشعباتها وتناقضاتها بعدا من أبعاد الانفصام عن الحياة والواقع، وطريقا نحو الإغراق في “الذاتية” والسقوط في أتون سوء فهم المجتمع وفهم الآخر القريب منا: وهنا الزوجة. وبهذا فإن “الواقع المعاصر” وخلله يهزم الشخصية ولا يمكنها من تحقيق رغبتها: الوصول إلى المثال الرومنسي/المثالي المنشود ممثلا في الزوجة البريئة الطاهرة النقية.
وعبر سردية مُقنِعة ومنطق حكائي مبني على الأسباب والنتائج تتمكن الرواية من تقديم معرفة سردية تنسجم مع حبكة الرواية، ومع الحالة النفسية لبطلها المهزوز الباحث عن يقين في واقع مختل بدوره لا يزيده إلا ظنا وشكا. وبذلك تمكنت الرواية من تقديم جرعات معرفية جديدة تتصل بعلم النفس، وبموقف الدين من الخيانة الفعلية أو الموهومة (المشايخ)، وبعوالم “المعالجين الروحيين”، فكانت هذه المعرف إضافة يتجدد بها النفس السردي في النص، ويجعل المتلقي يدرك مدى فداحة الانكسار الروحي، والاضطراب النفسي اللذين تعاني منهما شخصية بطل رواية “آخر”، كما يدرك أن تأجج الرغبة واستيلاء حب/كراهية الزوجة عليه جعله يدخل جحيم الشك الرهيب. ومن ثم “فإن المشاعر “المتضاربة” عنيفة لدرجة أن البطل يعجز عن السيطرة عليها”. (“رينيه جيرار”، نفسه، ص.66)
ومن خلال كل الوقائع والأحداث في تلونها، وتصاعدها، وفي مدها وجزرها، يتصاعد البناء الدرامي الذي يشكل مفاصل الرواية، ويجعل كثرة المعلومات التي تسردها عن أشياء متنوعة، تندرج في بؤرة تشخيص توزع الشخصية وحيرتها، وقلقها وهيمنة شكوكها إلى درجة مَرَضية. وبهذه الكيفية استطاع السارد أن يصور لنا نمطا آخر من أنماط الشخصيات التي هزمتها أحلام النقاء والطهارة انطلاقا من “كذبة رومنسية” ثاوية في أعماقها، مما يجعل وقوفها على جزء من “الواقع المعاصر” يرمي بها في أتون الصراع النفسي/الذاتي الرهيب، والصراع مع الآخر/الوسيط، ومع موضوع الرغبة ذاته: الزوجة التي ينهار تصوره عنها بعدما نطقت في لحظة جماع باسم شخص آخر. وبهذه الكيفية نلفي الرواية تبني عوالمها التخييلية انطلاقا من هذه الشرارة التي أتت على يقين البطل، وبسببها انهار عالمه “المثالي” أمام شكوك عصفت بسلامة يقينه، ورمت به في متاهة الشكوك، والهواجس، إلى درجة حسبان الظنون حقائق مجسدة جعلت علاقته تتوتر بزوجته، وبمن يحيط به.
وهكذا “ينتهي الأمر بالكراهية إلى “الانفجار”، كاشفة عن طبيعتها المزدوجة، أو بالأحرى عن الدور المزدوج الذي يؤديه الوسيط كنموذج وعقبة. وما هذه الكراهية التي تعشق والتبجيل الذي يُمرغ في الوحل(..) إلا أقصى أشكال الصراع الناجم عن الوساطة الداخلية”. (المرجع نفسه، ص.66)
وقد نجحت رواية “آخر” من تمثيل الرغبة عبر توظيف إمكانات مثلث الرغبة، ومن خلال وسيط داخلي قريب من البطل، جعل حياته تنقلب إلى جحيم، والحب يلتبس بالكراهية والحسد والحقد إلى درجة عدم القدرة، بالمطلق، على تجاوز اللحظة وتحقيق الرغبة المنشودة لدى بطل هذه الرواية، كما حاولنا أن نبين في هذه القراءة.
في ضوء كل ما سلف يمكن القول إن بنية الاشتغال السردي في هذه الرواية انبنت على توظيف مثلث الرغبة كأساس لبناء متخيلها من خلال استحضار وسيط داخلي:حاضر/غائب كان عائقا عن تحقيق موضوع الرغبة وحافزا عليها، وكان دافعا بالنسبة للشخصية المحورية كي تحيا في أتون مشاعر مضطربة، وبالتالي تعيش حالات نفسية متنوعة قوامها القلق والحيرة وسيطرة الهواجس والشكوك، وبالتالي العجز عن تحقيق الرغبة.
وقد أسعفت المعارف المتنوعة التي وظفها السارد في تبئير حالة بطله الوجدانية والنفسية ومكنته من الإمعان في تصويرها وتجلية مدى التباسها بما يغني اشتغاله التخييلي، ويقدم سردا متميزا عن شخصية عصفت بها الرغبة ولم تزدها المعارف والسرديات المختلفة -التي لجأت إليها بحثا عن عزاء واطمئنان- إلا معاناة وانهزاما وبعدا عن موضوع رغبتها.
التعليقات مغلقة.