العيد الافتراضي
اقتربت الساعة من 11 ليلا والسي الحسين لازال جالسا مع صديقه الوحيد في مقهى الحي الشعبي. يبدو وكأن كل هموم الدنيا سقطت فوق رأسه فجأة. كان يحادث صديقه وهو ممسك برأسه تارة ورافعا عيناه إلى السماء تارة أخرى.
لكن الغريب في الأمر أن صديقه البشير لا يبدي أي توتر أو انفعال، بل وعلى العكس كان يحاول جاهدا اخفاء ابتسامته وذاك ما أجج أكثر غضب السي الحسين إلى أن ضرب بكفه اليمنى سطح المائدة وزمجر قائلا:
آ السي البشير لم يتبق على عيد الأضحى سوى يومان ولم أشتر كبش العيد بعد.
ضحك البشير بملء شدقيه إلى أن لمع ضرسه الفضي ثم قال: أهذا كل ما يؤرقك يا هذا؟ لقد اشتريت الكبش صبيحة اليوم فقط بنقرة على شاشة هاتفي.
جحضت عينا السي الحسين وكأنه رأى جنيا أمامه ثم رد متعجبا: أتسخر مني بعد ما بلغت الستين من عمري؟
انطفأت ابتسامة البشير وبدا بعض الجد على وجهه ثم قال هامسا: لقد أطلعني إبن أخي على رقم هاتف بائع للغنم عن طريق الواتساب، راسلته صباحا فأرسل لي بعضا من الصور، ثم اخترت كبشا أعجبي واتفقنا على الثمن وغدا س…
قاطعه السي الحسين وقد شحب وجهه: أجننت السي البشير؟ أفضل أن تعايرني زوجتي بسبب عدم شرائي للكبش على أن أستعمل ذاك الواتساب الملعون.
السي الحسين رجل تقليدي شارف على التقاعد بعد عمله في مصلحة البريد منذ أكثر من أربعة عقود، لا يؤمن سوى بالقلم المدادي ولا شيء غير ذلك. لقد اضطر أن يستعمل الواتساب فقط لأن ابنته الصغرى تقطن في إيطاليا والمكالمات العادية أثقلت كاهله وكان ذلك بعد سنين من الإقناع.
نهض السي البشير من مقعده بعد أن أفرغ آخر قطرات الشاي في فمه الفضي ومد ورقة لصديقه قائلا: خذ هذه ربما تنفعك، لا عيب إن جرّبت، ولا تنسى أن تدفع ثمن الشاي مقابل الورقة.
انصرف البشير ضاحكا بينما ظل السي الحسين ملتصقا في مقعده لا ينظر لشيء سوى لتلك الورقة. يا للمصيبة، لقد سقطت آخر لبنة من سور قيمك يا الحسين، هكذا حدّث نفسه بعد أن نقل الأرقام إلى ذلك “المشقوف” (نعت يطلقه السي الحسين على هاتفه) ويرسل طلبا لبائع الأكباش. لقد تمّت الصفقة بكل سهولة ويسر. غدا صباحا سيستلم طلبيته رفقة صديقه البشير.
جلس السي الحسين على حافة سريره وقد جفاه النوم، تمنى لو لم يدخل في صراع مع الساعة الحائطية، لقد ظن للحظة أنها تعود بالزمن للوراء وهي تبتسم له في خبث.
هو فقط يريد أن يكتشف حقيقة الأمر، كان جزءا من كينونته يتمنى أن تكون صفقة الواتساب مجرد كذبة. كان يريد الانتصار لإلهه وتحطيم آلهة التكنولوجيا الجديدة.
استفاق في غفلة منه على صوت إبريق القهوة وهو يعوي من شدة لهيب النار.
“يبدوا أنني غفوت قليلا” قالها وهو ينهض مسرعا نحو دولاب الملابس.
لا وقت للإفطار الآن، للسي الحسين موعد مع الحقيقة.
في المكان المعلوم، اجتمع الصديقان ونفر من الناس ينتظرون وصول الأكباش، وما هي إلا لحظات حتى أقبلت حافلة مهترئة يصدر من داخلها مأمأة وثغاء.
صار الأمر حقيقة الآن، ها قد استلم كبشه وكذلك فعل السي البشير.
تواعدا أن يتلقيا مساءا في المقهى.
قبل أن يصل السي الحسين إلى منزله، تذكّر أن جزار وفقيه الحي السي المصطفى سيسافر لقرية زوجته هذا العيد، لقد أخبره بذلك عقب صلاة الجمعة الماضية.
يا للهول، كيف يمكن أن يحصل بي كل هذا يا رب؟ ما الذنب الذي اقترفته؟ من سينحرك أيها ال….؟ قالها وهو يحدِّق في وجه كبشه الوديع.
لم يعد السي الحسين قادرا على النحر والسلخ منذ أن زلت قدمه في الحمام وسقط على ظهره حيث انزلقت فقرة من عموده الفقري، كان ذلك منذ خمس سنين، ومنذ ذلك الوقت والسي المصطفى هو من يتكفل بكل ما يتعلق بالأضحية من ذبح وسلخ وتقطيع أيضا.
انطلق السي الحسين كالسهم جارا معه كبشه نحو منزل البشير، طرق الباب بعصبية شديدة وما إن تراءى له من خلف الباب حتى مد له طرف الحبل قائلا: خذ عني هذا فأنا لا أريده.
رد السي البشير في استغراب وهو رافع يداه حتى لا يمسك طرف الحبل: ماذا هناك يا رجل؟ أي جنون أصابك الآن؟
رد السي الحسين في انكسار: أ ولا تعلم أن السي المصطفى سيمضي أيام العيد مع أهل زوجته في القرية!؟
وماذا بعد!؟ رد البشير وقد ضم يديه إلى بعضهما.
أجاب السي الحسين معاتبا: أظنك قد نسيت أنني لا أستطيع…
قاطعه السي البشير: لم أنس يا صديقي، لا مشكلة في الأمر. خذ كبشك إلى المنزل ولنلتقي في المقهى بعد نصف ساعة، كأس الشاي على حسابك مرة أخرى.
ثم استدار وهو يقهقه كعادته تاركا السي الحسين في ذهول.
جلس الصديقان إلى حافة مائدة مستديرة والسي الحسين ينتظر الحل السحري.
قال السي البشير في كبرياء: هل سمعت يوما بالفيسبوك؟
أجاب الحسين في ثقة: طبعا سمعت، ولدي حساب لم أستعمله قط. لقد أنشأت لي إحدى بناتي حسابا على هذا “المشقوف”.
ابتسم البشير ثم قال: لقد قطعتَ نصف الطريق للحصول على جزار، ناولني هاتفك.
أمسك البشير بهاتف صديقه وظل ينقر هنا وهناك والسي الحسين ينظر إليه كالأبله.
“حسنا، ها هو”، قالها السي البشير وهو يوجه شاشة الهاتف نحو صديقه، انظر، هناك العشرات ممن يعرضون خدمة الذبح والسلخ في هذا الفضاء.
دفع السي الحسين يد البشير وهو يقول في غضب: بِئس الصديق أنت، كيف أسلِّم رقبة كبشي لشخص لا أعلم حتى إن كان يصلي أم لا.
بعد سجال طويل وافق السي الحسين على مضض وتم الاتصال بالجزار الافتراضي وتم الاتفاق.
حل يوم العيد ومر كل شيء على ما يرام لكن بدون أي طعم.
هنا استرجع السي الحسين شريط ذكرياته مع عيد الأضحى وكيف كان يُمضي يومين على الأقل في سوق الأضاحي يتفرس الأكباش واحدا واحدا، ويقوم بفحص معمق للكبش الذي وقع عليه اختياره قبل الدخول في مساومة “الكساب”.
تذكر كذلك كيف كان يتمكن من الاضحية ويُضجعها أرضا دون عناء.
أين اختفى كل هذا؟؟ أين اختفى تبادل الزيارات؟
يا إلهي، ماذا حل بنا؟ لم يعد أحد يهتم بتفاصيل العيد، إنها فقط نسخة شاحبة لعاداتنا وتقاليدنا.
هنا رمى الهاتف من بين يديه وكأنه جمرة ملتهبة وهو يردد في خوف: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” واستطرد قائلا: لو استمر الوضع على ما هو عليه ربما سنكتفي فقط بشراء صورة للكبش وصورة أخرى لعملية النحر وانتهى، ولربما سنصلي صلاة العيد من خلف التلفاز. لا لا ربما لن يكون هناك عيد أصلا.
اصفرّ وجه السي الحسين وأتعبه التفكير فقرر أن يُسند رأسه للوسادة وهو يحدث نفسه: ربما كل هذا مجرد كابوس فقط، ربما سأصحو بعد قليل حيث الواقع الجميل.
ح. بولعيش
كتبت فأبدعت أخي عبد الحميد
قصة جميلة ورائعة
تبارك الله قصة جميلة جدا اخي عبدو
Belle histoire. J’ai appris qu’en Algérie, quelques personnes ont loué des moutons juste pour les montrer à leurs voisins. Ils les rendent à leurs propriétaires le jour de l’aid. La hawla wa la 9owata illa bien Lah.
قصة جميلة